الدكتور حازم شومان عدد المساهمات : 31 تاريخ التسجيل : 26/12/2011
موضوع: بحث فى حكم الإفتاء من كتب الحديث والآثار الجمعة ديسمبر 30, 2011 12:26 am
بحث في حكم الإفتاء من كتب الأحاديث والآثار
بقلم الدكتور / ياسين مخدوم
صورة المسألة :
إذا كان الرجل عنده كتب الأحاديث المصنفة فيها أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه ، والآثار ، فهل له أن يفتي بما يجد فيها قبل أن يسأل عنه أهل الفقه والفتيا ؟
وفَرْضُ هذه المسألة في الرجل إذا كانت عنده ثمة نوع أهلية ولكنه قاصر عن معرفة الفروع ، وقواعد الأصوليين والعربية والمحدثين .
أما إذا لم تكن عنده ثمة أهلية قط وذلك في العامي الصرف الجاهل الذي لا يعرف معاني النصوص والأحاديث وتأويلاتها ، فهذا فرضه ما قاله الله تعالى : (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) سورة النحل الآية 43، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ألا سألوا إذا لم يعلموا ، إنما شفاء العي السؤال "(1)، وليس له الاشتغال بمعاني النصوص والأخبار(2).
تحرير محل الخلاف:
بيان هذه المسألة يحتاج إلى تفصيل؛ فيُقال : لا تخلو هذه الكتب من حالتين :-
الحالة الأولى:- أن يكون واثقاً من صحة ما في هذه الكتب .
الحالة الثانية : - أن لا يكون واثقاً من صحة ما فيها .
فإن لم يكن واثقاً من صحة ما فيها، وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن قد يكون فيها الضعيف أو الموضوع وهو لا يميز بينها وبين الصحيح، وليست له معرفة بذلك ولا بالأسانيد فليس له أن يفتي بها حتى يسأل من له علم بذلك.
وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- "عن الرجل يكون عنده الكتب المصنفة فيها قول الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ، وليس للرجل بصرٌ بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف ، فيجوز أن يعمل بما شاء ، ويتخير منها فيفتي به ويعمل به" ؟.
فقال : "لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها ، فيكون يعمل على أمرٍ صحيح، يسأل أهل العلم"(3).
أما إذا كان واثقاً من صحة ما في كتبه كأن تكون عنده نسخة صحيحة من الصحيحين البخاري ومسلم أو أحدهما ، أو كتاب من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم موثوق بما فيه ، فهل له أن يفتي بما يجده فيه ؟
اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول : ليس له أن يفتي أو يعمل به، وعليه أن يسأل أهل الفقه والفتيا عن ذلك.
وبه قال بعض المتأخرين من الحنفية وغيرهم(4).
الأدلة :
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي :
قالوا : ليس له ذلك ؛لأنه قد يكون ما في هذه الكتب منسوخاً ، أو له معارض ، أو يفهم من دلالته خلاف ما يدل عليه ، أو يكون أمر ندبٍ فَيْفَهم منه الإيجاب ، أو يكون عاماً له مخصص ، أو مطلقاً له مقيد ، فلا يجوز له العمل ولا الفتيا به حتى يسأل أهل الفقه والفتيا(5).
المناقشة :
وقد أجيب عن هذا الاستدلال بأمرين :
الأول : أنه خلاف ما علم من حال الصحابة والتابعين ؛فإنهم كانوا يعملون بما بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير توقف ولا بحث عن معارض .
الثاني : أن احتمال وقوع النسخ الذي ذكروه في الأحاديث احتمال ضعيف؛ لأن النسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ أغلب الأحاديث بل ولا شطرها، فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب إلى المنسوخ أقل بكثير من وقوع الخطأ في تقليد من يصيب ويخطئ ، ويجوز عليه التناقض والاختلاف ، ويقول القول ويرجع عنه ، ويحكي في المسألة عدة أقوال ، ووقوع الخطأ في فهم كلام المعصوم أقل بكثير من وقوع الخطأ في فهم كلام الفقيه المعين، فلا يفترض احتمال خطأٍ لمن عمل بالحديث وأفتى به إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه(6).
القول الثاني : يجوز له أن يعمل ويفتي به ، بل يتعين عليه .
وبه قال طائفة من أهل العلم(7).
الأدلة : استدل أصحاب هذا القول بأمور :-
الأول : أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا إذا بلغهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بادروا إلى العمل به من غير توقف ولا بحث عن معارض، ولا يقول أحدٌ منهم قط : هل عمل بهذا فلان وفلان ؟
ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا عليه أشد الإنكار ، وكذلك التابعون . وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم . وطول العهد بالسنة وبُعد الزمان لا يسوغ ترك الأخذ بها والعمل بغيرها .
الثاني : أنه لو كانت السنن النبوية لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان لكان قول فلان أو فلان معياراً للسنن ، ومزكياً لها ، وشرطاً في العمل بها ، وهذا من أبطل الباطل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم تبليغ سنته ودعا لمن بلغها ، فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها العالم الفلاني أو غيره لم يكن في تبليغها فائدة ، وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان .
الثالث : أن احتمال وقوع الخطأ بالعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه منسوخاً ، أو لعدم فهم كلامه أقل بكثير من احتمالات وقوع الخطأ بتقليد أقوال غيره ممن لا يعلم خطؤه من صوابه ، وذلك لقلة المنسوخ من الأحاديث ، وعصمته صلى الله عليه وسلم (.
القول الثالث : التفصيل ، وبيانه :
فإن كانت دلالة الحديث بيّنة لكل من سمعه لا يحتمل غير المراد فله أن يعمل به ، ويفتي به ، ولا يطلب له التزكية من قول فقيه أو إمام ، لأن الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه .
وإن كانت دلالته خفية لا يتبين المراد منها لم يجز له أن يعمل ، ولا يفتي بما يتوهمه مراداً من الحديث حتى يسأل ويطلب بيان الحديث ووجهه .
وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده ، والأمر على الوجوب ، والنهي على التحريم فهذا يُخَّرج على الأصل وهي المسألة الأصولية وهي العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض ، وفيها ثلاثة أقوال لأهل العلم : الجواز ، والمنع ، والفرق بين العام فلا يعمل به قبل البحث عن المخصص، والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض(9).
وهذا التفصيل هو الذي رجحه ابن القيم(10).
الترجيح : -
من خلال النظر فيما سبق من الأقوال والأدلة يترجح في نظري – والله أعلم – القول الثالث وهو القول بالتفصيل . وسبب الترجيح ما يلي :
أولاً : وجاهة هذا التفصيل المذكور في هذا القول ، ومراعاته لاختلاف أحوال دلالات الأحاديث؛ فمنها ما دلالته نصية، ومنها ما دلالته خفية ، ومنها ما دلالته ظاهرة ومحتملة . وهذه دلالات غير متساوية والواجب مراعاتها في التعامل مع النصوص .
ثانياً : أن هذا التفصيل هو القول الوسط الذي يراعي اختلاف الأفهام في تعاملها مع النصوص .
ثالثاً : أنه يمكن الجمع بهذا القول بين القولين السابقين وأدلتهما ؛ فيُحمل القول بالمنع ودليله على ما كانت دلالته خفية أو ظاهرة محتملة من الأحاديث ، ويحمل القول بالجواز وأدلته على ما كانت دلالته بينة وواضحة منها .
الهوامش ============
(1) من حديث جابر –رضي الله عنه-. أخرجه أبو داوود في سننه 1/93، حديث رقم 336، كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم، والبيهقي في السنن الكبرى 1/227، حديث رقم 1016، والحاكم في المستدرك 1/285، وبلفظ قريب منه رواه ابن ماجه في سننه 1/189، حديث رقم 572.
(2) إعلام الموقعين 4/181، عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد للدهلوي ص 23 .
(7) هكذا نُسب هذا القول بدون تعيين قائله . انظر: كشف الأسرار 3/53 ، إعلام الموقعين 4/180 – 181 .
( إعلام الموقعين 4/180 – 181 .
(9) انظر الأقوال والأدلة في هذه المسألة في المراجع التالية : فواتح الرحموت 1/267 ، إحكام الفصول 253 ، المستصفى 2/157 ، البحر المحيط 3/36 ، العدة 2/526 ، إرشاد الفحول ص 139 .